فصل: تفسير الآيات (38- 45):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (25- 31):

{كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
غير ذي عوج: مستقيم على الحق، لا اختلاف فيه. متشاكسون: مختلفون يتنازعون. سلما: خالصا لسيد واحد لا ينازعه فيه احد. ميت: ستموت. وميْت باسكان الياء: الذي مات. تختصمون: تتجادلون.
ثم يعرض الكتابُ حال المكذّبين لرسول الله ويذكر ما جرى للمكذّبين من الأمم الماضية قبلهم لعلّهم يتعظون ويرجعون عن كفرهم وجحودهم. ان بعض الأمم الماضية كذّبت رسُلَها في الدنيا فأتاها العذابُ نم حيث لا تَحتسِب ولا يخطر لها على بال.
فأذاقهم الله الذلّ والصَّغار في الدنيا، وفي الآخرة ينتظرهم العذاب الاكبر {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ولكنهم عن ذلك كله غافلون.
ولقد بينّا للناس في هذا القرآن من كل مثل يذكّرهم بالحق {لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، وأنزلناه قرآنا عربياً بلسانه ليفهموه، ولكنه إنسانيُّ للناس كافة لا يحدُّه ومانٌ ولا مكان. وهو {عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} بل مستقيم في مبناه ومحتواه.
وبعد أن ذكر الحكمة في ضرب الامثال للناس، جاء بمثل هنا فيه عبرة فقال: {ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الحمد للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
ان المشرك الذي يعبد اكثر من إله هو أشبه بعبدٍ مملوك لجماعة مختلفين متشاكسين فيه فلا يتفقون على شيء، ولا يستطيع هو تلبية طلبات الجميع.
اما المؤمن الموحِّد الذي يعبد إلهاً واحداً فهو أشبه ما يكون بعبد يمتلكه رجل واحد، فالاثنان لا يستويان ابدا. الحمد لله على إقامة الحجة على الناس، ولكن أكثرهم لا يعلمون الحق.
ثم بين الله تعالى ان مصير الجميع اليه، وان النبي الكريم ميت وهم ميتون، وانهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو الحَكَم العدل، يجازي كلاًّ على ما قدم.

.قراءات:

قرا ابن كثير وأبو عمر: {ورجلا سالما} بمعنى خالصا. والباقون: {سَلَما}.

.تفسير الآيات (32- 37):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}
مثوى: مقاما والفعل ثوى بالمكان أقام. والذي جاء بالصدق: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصدّق به: أصحابه الكرام واتباعه.
ليس هناك اظلم ممن كذب على الله فنسب اليه ما ليس فيه، وأنكر الحق حين جاءه على لسان الرسُل، فمثلُ هؤلاء الناس ستكون إقامتهم في جهنم كما قال تعالى: {فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ}.
ثم بين حال الصادقين المصدّقين، وما ينتظرهم من حسن جزاء وكرم ضيافة، هم ومن جاءهم بالصدق، وهو الرسول الكريم، والذين ساروا على نهجه، {أولئك هُمُ المتقون} لهم من الكرامة عند ربهم ما يشاؤون ويحبون. وذلك جزاء كل من احسن عملا، وأخلص في دينه.
والله سبحانه وتعالى سيكفّر عنهم أسوأ ما عملوا من السيئات في الدنيا ويغفر لهم كل ذنوبهم {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهذا يدل على سعة رحمة الله، وعظيمة غفرانه والحمد لله.
ثم بين الله تعالى انه مع رسوله الكريم، فلا يستطيع احد ان يؤذي ذلك الرسول والله وحده يكفيه كل ما يهمه. انهم يخوفونك يا محمد بآلهتهم واصنامهم، وذلك من ضلالهم وتعاستهم. يقولون لك: أتسبّ آلهتنا؟ لئن لم تكفّ عنها لنصيبنّك بسوء. لا تخف منهم فانهم لن يضرّوك أبدا، {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ} والله هو العزيز الذي بيده كل شيء، لا يغالَب، وهو ذو انتقام من أعدائه لأوليائه، يحفظهم ويمنعهم من كل شيء.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وخلف: اليس الله بكافٍ عبادَه بالجمع. والباقون: عبده بالافراد.

.تفسير الآيات (38- 45):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)}
حسبي: كافيني. من دونه: الاصنام. مكانتكم: الحال التي انتم عليها. اشمأزت: ضاقت ونفرت، انقبضت.
بعد أن بين الله تعالى حال المؤمنين في الجنة، حيث يتمتعون بنعيمها ويؤتيهم الله ما يشاؤون- يؤكد هنا انه يكفيهم في الدنيا ما أهمَّهم، ولا يضيرهم ما يخوّفهم به المشركون من غضب الأوثان وما يعبدون من آلهة مزيفة. فالأمور كلها بيد الله. كذلك بيّن ان قول المشركين يخالف فعلهم، فحين تسألهم: من خلق السموات والارض؟ يقولون: الله. وهم مع ذلك يعبدون غيره.
ثم يسألهم سؤال تعجيز: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ؟} كلا، طبعا. وما دامت هذه الاصنام لا تنفع ولا تضر، فقل يا محمد {قُلْ حَسْبِيَ الله عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون}.
ثم أمر رسوله الكريم ان يقول لهم: {قُلْ يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ....}
اعملوا ما تشاؤون وعلى الحال التي تحبو، اني عاملٌ حسب ما أمرني الله، ويوم الحساب ترون المحقَّ من المبطِل، ومن سيحل عليه عذاب مقيم يخزيه يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد أن حاجّهم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بالأدلة القاطعة على وحدانية الله تعالى- بيّن الله تعالى أنه انما انزل عليه القرآن بالحق وليس عليه الا إبلاغه للناس، فمن اهتدى فقد فاز، ومن ضل فعليه وزره يتحمله، {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتجبرهم على الإيمان والهدى.
ثم بين الله تعالى انه يأمر بقبض الأرواح حين موتها بانتهاء أجلها، ويقبض الأرواح التي لم يحنْ اجلُها حين نومها، فيمسك التي قضى عليها الموت لا يردّها إلى بدنها، ويرسل الاخرى التي لم يحن أجلها عند اليقظة إلى أجل محدد عنده. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} من أهل العقول المفكرة المدبرة.
ثم بين ان الاصنام التي اتُخذت شفعاء لا تملك لنفسهاشيئاً ولا تعقل شيئا، فكيف تشفع لهم؟.
قل لهم يا محمد: الشفاعة لله وحده، وله وحده ملك السموات والارض. {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
ثم بين الله معايب المشركين وسُخفهم بانه إذا قيل لا اله الا الله وحده نفرت قلوبهم وانقبضت وظهر الاشمئزاز على وجوههم، واذا ذُكرت آلهتهم التي يعبدونها من دون الله {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} ويفرحون.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو والكسائي عن أبي بكر: {كاشفاتٍ ضره....ممسكاتٍ رحمته}. بتنوين {كاشفات...ممسكات}، ونصب {ضره...رحمته}، والباقون بالاضافة {كاشفات ضره....} وقرأ حمزة والكسائي: {فيمسك التي قُضي عليها....} بالبناء للمفعول. والباقون: {قَضى} بفتح القاف والضاد.

.تفسير الآيات (46- 52):

{قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
اللهمّ: كلمة تستعمل للنداء، يا الله. حاق بهم: أصابهم، وأحاط بهم. خولناه: أعطيناه. فتنة: بليّة، مصيبة، لأن النعمة قد تكون فتنة احيانا.
قل يا محمد متوجهاً إلى مولاك: يا الله، أنت خالق السموات والأرض، وعالم السر والعلَن، انت تحكم بين عبادك وتفصِل بينهم فيما كانوا يختلفون بشأنه في الدنيا.
وبعد أن علّم الله تعالى رسوله الكريم هذا الدعاء يعرِض حال الظالمين المخيفة يوم القيامة، يوم يرجعون للحكم والفصل. ولو ان للذين ظلموا أنفسهم بالشِرك جميعَ ما في الأرض وضعفه معه لدّموه فداءً لأنفسهم من سوء العذاب يوم القيامة، يوم يرون بأعينهم ما لم يخطر لهم على بال من العذاب الأليم، وتظهر لهم سيئاتهم التي عملوها في الدنيا، ويحيط بهم ما كانوا به يستهزئون.
ثم بين الله تعالى أن الإنسان إذا اصابه ضر نادى الله متضرعاً، لكنه إذا اعطاه نعمة قال: ما أوتيتُ هذه النعم الا لعلمٍ عندي، وجميل تدبيري، وقد غاب عنه ان الأمر ليس كما قال، بل ان هذه النعمة التي تفضّل الله بها عليه هي اختبارٌ له وفتنةٌ ليظهر الطائع من العاصي، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}.
ثم بين الله ان هذه مقالة قديمة قد سبقهم بها كثير من الأمم قبلهم فقال: {قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}
فما دفع عنهم العذابَ كل ما اكتسبوه من مال ومتاع، فحلّ بالكفار السابقين جزاءُ سيئات أعمالهم، والذين كفروا من قومك وظلموا انفسهم ايها النبيّ، سيصيبهم أيضا وبالُ السيئات التي اكتسبوها.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
انما خص المؤمنين بذلك، لأنهم هم الذين يفكرون وينتفعون بايمانهم. وقد تقدم مثل هذا المعنى في سورة الرعد 26، والاسراء 30، وغيرها من السور.

.تفسير الآيات (53- 59):

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)}
اسرفوا على انفسهم: تجاوزا الحد فيما فعلوه من المعاصي. لا تقنطوا: لا تيأسوا. أنيبوا: ارجعوا إلى ربكم. وأسلموا: أخلصوا له. احسن ما انزل اليكم: القرآن. قرّطت: اهملت وقصرت. في جنب الله: في حقه وطاعته. لو ان لي كرّة: لو ان لي رجعة.
{قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله....}
ان هذه الآية الكريمة اعظم بشرى لنا نحن المؤمنين، فهي دعوة صريحة من الله لنا إلى التوبة، ووعدٌ باعلفو ولاصفح عن كل ذنبٍ مهما كبر وعظم. وقد ترك الله تعالى بابه مفتوحا للرجوع اليه امام من يريد ان يكفّر عن سيئاته، ويصلح ما أفسد من نفسه.
روى الامام احمد عن ثوبان مولى رسول الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ....} فقال رجل: يا رسول الله فمن أشرك؟ فسكت الرسول الكريم، ثم قال: أَلا ومن الشرك- ثلاث مرات» إلى احاديث كثيرة كلها تبشر بسعة رحمة الله، والبشرى بالمغفرة مهما جل الذنب وكبر، ويا لها من بشرى. {إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً} صدق الله العظيم. {إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم} فمن أبى هذا التفضل العظيم، والعطاء الجسين، وجعل يقنّط الناس، وتزمّتَ مثل كثير من وعَاظ زماننا، وبعض فئات المتدينين على جَهل- فقد ركب أعظم الشطط، فبشّروا ايها الناس ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا، يرحمكم الله.
ثم امر سبحانه بشيئين: فقال:
1- {وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ....} اغتنموا هذه الفرصة ولا تضيعوها ايها الناس، وتبوا إلى بارئكم.
2- {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ....}.
ثم بين بعد ذلك ان عاقبة من أهل التوبةَ هو ما يحل به من الندامة يوم القيامة فقال: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين}.
بادروا إلى العمل الصالح والتوبة واحذَروا ان تفوتكم الفصرة، فتوقل بعض الانفس يوم القيامة: يا حسرتا على تقصيري وتفريطي في طاعة الله، وكثرة سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه ورسوله. أو تقول: لو ان الله هداني إلى دينه وطاعته لكنتُ من الفائزين. أو تقول حين ترى العذاب: ليس لي رجعةً إلى الدنيا فأكون من المهتدين. فيقال له: {بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا}
ليس الأمر كما زعمتَ، ولا فائدة من ذلك، فقد جاءتك آياتي في الدنيا على لسان رسولي فكذّبته وكذّبت بآتي، واستكبرت عن قبولها {وَكُنتَ مِنَ الكافرين}.

.تفسير الآيات (60- 67):

{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)}
وجوههم مسودّة: كناية عن الذل والحسرة. مثوى: مقام. بمفازتهم: بفوزهم ونجاتهم. وكيل: قيم بالحفظ ولاحراسة. مقاليد السموات والارض: مفرده مقلاد ومقلد: وتطلق على الخزانة والمفتاح. ليحبطن عملك: ليذهب هباء. ما قدروا الله حق قدره: ما عظّموه كما يليق به. والأرض جميعا قَبضتُه: في ملكه وتحت امره. بيمينه: بقدرته.
ويوم القيامة أيها الرسول يدل على الذين كذبوا على الله ذلٌّ وحسْرة ظاهرة على وجوههم. ان في جعهنم مقاما كبيرا للمتكبرين. وينجي الله من عذابه الذين اتقوا ربَّهم فلا يصيبهم سوء ولا هم يحزنون.. لقد أمِنوا من كل خوف وشر، والله وحده خالق هذا الكون {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} قائم بالحفظ، يتولى التصرف بحسب حكمته.
{والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله}
لأنهم حُرموا من الرحمة يوم القيامة بخلودهم في النار.
قل لهم يا محمد: أبعد وضوح الآيات على وحدانية الله تأمرونني ان أعبد غيره أيها الجاهلون!!
ثم بين الله تعالى أنه قد أوحى إلى الرسول الكريم والأنبياء من قبله ان يكونوا موحِّدين ولا يشركون بالله شيئاً، ومن يشركْ يذهبْ عملُه هباءً ويكون من الخاسرين.
ثم بين لرسوله الكريم أن لا يجيب المشركين إلى ما طلبوه من عبادة الأوثان، وان يعبد هو ومن اتبعه من المؤمنين الله وحده، وان يكون من الشاكرين لنعم الله التي لا تحصى.
ثم بين الله تعالى جهل اولئك الجاحدين بقوله: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ}
اذ أشركوا معه غيره ودعوالرسول إلى الشرك به، واللهُ سبحانه هو مالك هذا الكون، وتكون السموات مطوية بيمينه يوم القيامة {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
والغرض من هذا الكلام تصوير عظمة الله وجلاله، وكل ما يرد في القرآن الكريم من هذه الصورة والمشاهد انما هو من باب تقريب الحقائق إلى أفهام الناس الذين لا يدركونها بغير ان توضع لهم في تعبير يدركونه.

.قراءات:

قرأ الكوفيون غير حفص: {بمفازاتهم} بالجمع، والباقون: {بمفازتهم}. وقرأ ابن عامر: {تأمرونني} وقرأ ابن كثير: {تأمرونّيَ} بتشديد النون وفتح الياء. وقرأ نافع: {تأمرنيَ} بتخفيف النون وفتح الياء.